آخر الأخبار

أم النضال…فريدة النقاش

د.إلهام سيف الدولة حمدان
__________
التقت الام المناضلة فريدة النقاش زوجها المناضل الراحل حسين عبد الرازق الذي وجدت فيه الرفيق والصديق والزوج ، ليسطرا معا ملحمة سياسية وأسرية ذات طبيعة خاصة، برغم أن فريدة لم تجد ما يستدعي أن تتوقف وتعود إلى دورها الرئيس كأم تاركة مضمار «النضال السياسي»، وهو ما ارتضاه شريك الدرب رحمه الله، لتأتي أيام على طفليهما (رشا وجاسر ) يقفان فيها وحيدين فالأب والأم خلف أسوار المعتقل، والأصدقاء والأقرباء يتولون رعايتهما حتى موعد الخروج. ولأنها أم وزوجة وامرأة قبل أن تكون مناضلة سياسية، ترى أن التجربة كانت مؤلمة فلم يكن اختيارها أن تبتعد عن طفليها وتسجن، مؤكدة أن المجتمعات العربية تظلم المرأة وتتهمها دائما بالتقصير إذا خرجت للعمل أو انشغلت بالسياسة،وهذا امر غير منصف.

ولكن.. ترى ماذا يحدث للأبناء إذا تعرضت هذه الأم المناضلةللسجن؟!
وهو أمر طبيعي ومتوقع لمن لها مثل هذه المسيرة النضالية؛ بالتأكيد ان هذا الأمر ليس بالهين أبدا على نفسها ولا على أهلها ولا على الأبناء آنئذ؟ فستجد نفسها حتما في مأزق كبير، كيف ستوفر الرعاية البديلة التي يحتاجونها؟ فحاجتهم ستصبح ماسة أيضا للدعم النفسي فضلا عن احتياجاتهم اليومية.
شغلني هذا الأمر جدا وانا اتابع مسيرتها الحياتية كيف كانت تواجه الأم العطوف فريدة النقاش مثل هذه المواقف ونحن نعلم أنها تعرضت للاعتقال السياسي مرتين حيث صرحت ذات لقاء صحفي:”كان اعتقالي الأول لمدة شهرين في العام 1979، بقرار من الرئيس أنور السادات، لقيامي بإعداد مجموعة دراسات تناهض اتفاقية كامب ديفيد وتدعو لمقاومة التطبيع مع إسرائيل، ومع التجربة الأليمة أصدرت كتابي الأول ‘السجن وطن’، بينما كانت تجربة الاعتقال الثانية بتهمة المشاركة في تأسيس الحزب الشيوعي المصري”.

وجدت النقاش نفسها أمام خيارين، كلاهما صعب وقاسٍ، الأول موقفها الوطني والثقافي والسياسي الرافض لكل سياسات التطبيع والانفتاح والاستلاب، والثاني موقفها كأم تعشق أطفالها، ولذلك نراها تقول في أحد عناوين المقالات التي يضمها كتاب «يوميات المدن المفتوحة» أنا لا أخون أمومتي، لكنها تؤكد أن الاتهام وجه إليها من أصدقائها وصديقاتها مفاده :«أنها تفضل السياسة على أولادها»، وكانت ترد على ذلك بقولها: «إنني اخترت أمومة اجتماعية أكثر رحابة»؛ياله من رد فلسفي عميق!

كانت تحيط فريدة دائرة من الأصدقاء المخلصين لها ولقضاياها الوطنية التي هي قضاياهم أيضا فأحتضنوا طفليها رشا وجاسر بالرعاية المطلوبة وإن كانت تنقصها لمسات فريدة النقاش الزوجة والأم؛ فوجدناها تشرح لزوجها عن تفاصيل الأمور المنزلية وعن الأعمال غير المكتملة المنثورة هنا وهناك في أرجاء المنزل قبل أن تتركه، فهي أولا وأخيرا زوجة وأم برغم انها ظلمت كثيرا حين وجه البعض لها اتهامات بالتقصير في حق طفليها كما اشرت، وكانت تدافع بأن الأمومة لا تتعارض مع العمل السياسي وأنها أرادت أن يتعرف ابنيها على كل ما يحدث لها لتنمو مداركهما ويخبران الحياة ومشقتها مع علمها اليقيني ان تجربة الأبناء مع سجن أحد الوالدين مؤلمة إلى حد كبير !
لكن..ماذا لو تعرض الأب للاعتقال حتما سينزل هذا الأمر نزول الصاعقة على الزوجة المحبة ..ماذا ستفعل..كيف سترد على تساؤل الابنة رشا عن والدها؟!

صرحت فريدة النقاش في كتابها (السجن..الوطن ).. أنها كذبت على رشا ابنتها حين بادرتها بالسؤال مستفسرة عن غياب والدها..قالت…”وجدتني أكذب على ابنتي حين سألتني :أين بابا…كانت رشا في السابعة لاتعرف شيئاً عن الأحداث الطلابية التي هزت البلاد…كنت قد ذهبت بصحبة الصديقين صلاح عيسى وعبدالسلام مبارك لاحضارها من المدرسة ومرافقتها لزيارة معرض الكتاب..لم تكن أمام أي منا الشجاعة الكافية لقول الحقيقة.”
لهول الحقيقة وهي القبض على والدها حسين عبد الرازق والصدمة التي عاشتها فريدة النقاش حين تعرض منزلها للتفتيش من جانب قوات الأمن لأول مرة حين اصطحبوا زوجها…وكان الاتهام الموجه إليه هو المشاركة في إعداد الانتفاضة الطلابية والتحريض عليها…
“وحين عاودت رشا سؤالها ونحن في الطريق إلى المعرض قال لها عبد السلام مبارك إن بابا في الإسكندرية ثم أسر لي..هذا رد اعتدنا أن نقوله للأطفال الذين يصعب مناقشتها بسبب صغر سنهم…”

هنا لجأت فريدة إلى استخدام الكذب “الأمومي” البريء لتجنب طفلتها الألم وتحميها من معرفة مصير والدها حتى تؤمن لها سلاما داخليا برغم أن الحزن كان يعتصرها لكنها تماسكت وتشامخت فوق هذا المصاب الذي حل ظلما برفيق نضالها.

وبرغم دور فريدة النقاش الملموس في الاهتمام بقضايا المرأة إلا أنها عبرت عن ندمها حين قالت:”نادمة على أنى لم ألتفت إلى قضايا المرأة وخصوصياتها إلا بعد زمن طويل من العمل العام، فقد كان لدى تصور بأن المرأة ستجد فرصتها فى ظل المجتمعات الاشتراكية، لكن بعد دراستى لتلك المجتمعات بعد سقوطها لم أجد هذا، وتبين لى وقتها أن هناك ضرورة لكفاح المرأة فى ظل الاشتراكية، لأن التمييز ضدها أمر قديم جدا، وليس مرتبطا بنظام معين، وعندما اكتشفت هذا ندمت جدا على تأخرى فى الاهتمام بقضايا المرأة.”

ورأت أن :”الموجود الآن هو تناقض فى وضع المرأة، فهناك إنجازات وهناك صورة سلبية، فالتيار الدينى لعب دورا مخربا فى تشويه قضايا النساء وقدم المرأة باعتبارها عورة، كما أثرت على وضع المرأة مجموعة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية منذ عهد «مبارك»، فالبطالة والفقر ازدادا بشكل واضح خاصة بالنسبة للمرأة التى قدمت صورة ديناميكية لدورها ورعايتها للأسرة وتحملها لمسؤوليات كثيرة دون الرجال، خاصة فى المجتمعات الفقيرة والعشوائية، ولعبت دور العائل بدلا من الرجال. فأنا بشكل عام ضد فكرة تقسيم الأمر بين سلبى أو إيجابى، ولكنى أقيم الحال فيما هو مشرق ومستقبلى وما هو مظلم وغامض.”

كانت فريدة النقاش دائما رمزا من رموز العطاء والتحدي ليس على المستوى السياسي فحسب ودورها البارز في العمل العام ؛ بل بوصفها نموذجا للمرأة التي تقف بكل قوة وحزم في وجه مصاعب الحياة وتخوض معتركها القاسي ،بغية بناء مستقبل أفضل لأبنائها بكل شجاعة ومثابرة فتحفزهم على التعليم والتعلم، لبلوغ أهدافهم المستقبلية في الحياة فتظل تعطي بلا كلل ولا ملل بكل جوارحها وخلجات روحها وقلبها ،و بكل طاقة لديها فنجدها تقدم نموذجاً رائعاً للأمومة والتحدي، بل تجعل من نفسها في الوقت ذاته قدوة لأخريات على أن يكنّ سائرات على المنوال نفسه.
وبين دورها الأمومي ودورها كمدافعة عن المرأة وقضاياها نجد انها ليست أما للأبناء فقط..بل هي أم ل(النضال)ذاته ؛فأينما ذهبت أو نظرت تلاحقها طبيعتها النضالية المنتصرة للحق والعدالة ..فهي بحق عظيمة من عظيمات مصرنا المحروسة بما لها من باع إنساني في المقام الأول وما خطته من منتوج نقدي وسياسي بين دفتي كل كتاب أصدرته أو صحيفة عبر سنوات ممتدة كمان ان لنا في سيرتها ومسيرتها _ونحن نحتفل بلوغها ال٨٥ ربيعا هذا الشهر- الكثير من الدروس لاتملك إلا أن تنحني لهذه القيمة والقامة إعجابا، ولمواقفها الإنسانية تصفيقا ،ولنضالهاالوطني تعظيم سلام …
وختاما أرجو أن تحتفي الدولة المصرية دوما بمثل هذه المقامات نادرة الوجود وأدعو وزارة الثقافة المصرية ان تحظي (ام النضال) بأرفع الأوسمة وان يكون لها من جوائز الدولة نصيب استحقاقا طبيعيا لدرة العطاء وايقونة الإنسانية ..فريدة النقاش!